وثائقي : نهضة ماليزيا - عن دور مهاتير محمد

وثائقي : نهضة ماليزيا - عن دور مهاتير محمد
المعجزات البشرية : وثائقي " تهضة ماليزيا " : إزاي فى أقل من 20 سنة قدرت ماليزيا تتحول من دولة فقيرة نامية لدولة متقدمة

أسئلة عديدة دارت في مخيلتي -قبل هبوط الطائرة في مطاركولالمبور- عن ماليزيا المشروع الوطني المدني، وتقدمها الصناعي والتعليمي الذي تصدرت به تجربة حاضر العالم الإسلامي منذ السبعينيات.

وبعد أقل من 30 عاماً من الاستقلال، ومع تلك الأسئلة كان هناك قلق متزايد حول صمود هذه التجارب في الشرق الإسلامي، في ظل انهيار دوله تحت وطأة تحالفات شرسة إقليمية ودولية، ساعدها إرث استبداد، وانقسام تشطيري خطير بين جماعاته القومية والدينية، وبدأ هذا التشظي والتصدع يؤثّر على تجربة تركيا الحديثة -التي لم تتجاوز عقدين- ليُدخلها مرحلة انتقالية صعبة ومعقدة.

"هناك قلق متزايد حول صمود هذه التجارب في الشرق الإسلامي، في ظل انهيار دوله تحت تحالفات شرسة إقليمية ودولية، ساعدها إرث استبداد، وانقسام تشطيري خطير بين جماعاته القومية والدينية، وبدأ هذا التشظي والتصدع يؤثّر على تجربة تركيا الحديثة -التي لم تتجاوز عقدين- ليُدخلها مرحلة انتقالية صعبة ومعقدة"
فماذا عن شقيقة النهضة الأخرى التي يعوّل المسلمون عليها مع تركيا في ظل التيه العربي الكبير، وهي اليوم ماليزيا؟

إن من المهم -قبل الاستطراد في المقال، وهو قراءة استشرافية أولية وليس دراسة قطعية عن مستقبل التجربة الماليزية- أن نحدد ماذا نعني بمفهوم النهضة الذي لا توجد له اليوم تجارب مثالية في العالم الإسلامي، من خلال ولادة مشروع متكامل يحقق نهضة الإنسان في بنائه الروحي وحريته الفردية، وتقدم التعليم والفكر، ليحوّل تفوق الآلة الصناعية لمصلحته الوطنية والإنسانية.

وهو نموذج قد تتفق فيه بعض تيارات العالم، وقد تختلف في مدلولات رسالة الروح والدين والوعي القيمي وتأثيرها في المجتمع، وهي هنا بالنسبة للمسلمين الميثاق الفكري الواضح في معايير فلسفته، والمحدد أفقه المقاصدي للحياة البشرية، وآثار ذلك في نظامه القانوني والأخلاقي.

فأخطاء التطبيق -القائمة على خلل الوعي لدى المسلمين- لا تُلغي أن هناك مساراً إسلاميا له حدوده وخصوصيته في تأسيس ميثاقه الإنساني والدستوري لمواطنيه وللبشرية، فتشترك معهم في توافقات تنظم سلميا وتكافح البغي والعدوان، وتحترم مسارات الفكر الإسلامي الخاصة، الذي أحيانا يُلغى كمتطلب لمشروعٍ دولي، أو هزيمة نفسية لدى مفكرين شرقيين أعلنوا سقوط أي تميّز لمفهوم الحرية والفكر الإسلامي والنماء الإنساني، وأصروا على أنه مجرد مضبطة سلوكٍ مشاعة يمكن أن تفسّر بأي اجتهاد.

فهُم في الحقيقة أسقطوا قدرة العقل على قراءة الفرق بين منتجات بعض فلسفات الغرب ورسالة الأديان، دون حتى إعطاء الحق لفهم أين اتفق الإسلام وأين شرّع ذاتيا حقوقاً أكثر انضباطية للحياة الفاضلة؟ ولماذا اختلف؟ وهل اختلافه في أداة الهدف الخيري المعلن أم في بعده النافع الذي تصبو إليه الإنسانية؟ وهل إسقاط البعد الروحي وأخلاقيات القيم يصبّ في صالح البشرية أم هو محنة عظمى عليها؟

وكل ما في الأمر أنه لا توجد اليوم معادلة حوار ومقارنة بين رسالة العدل للإيمان بالروح والقيم، وبين قواعد الفلسفة الغربية التي اعتمِد بعضها كأحكام، دون انتخاب من العقل الواعي للرحلة البشرية الذي يوصِل إلى تحديد واضح لمعنى الخير والسوء، بين المنهجين.

وإنما قويت معادلة إعلان القوة الفلسفية الغربية التي لا نزعم إسقاطها كليا، ولا خلوّها من مدارات نقاش وحوار نافع للعالم الجديد ولذات التنظير الفكري لحوار الفلسفة المعاصرة، لكنها لا يمكن أن تكون معياراً عبر قوة نفوذ قاهرة لسواها، وفي جزءٍ كبير منه كان مشروعا استعماريا أخضع العالم لسلطة مصالحه، ثم شرّع قوانين وأحكام لحمايتها.

ومن هنا نقول إن مستوى النهضة -الذي نعنيه في تجربة حاضر العالم الإسلامي اليوم- هو ذلك الحد من التشريع والتنفيذ لصالح صناعة الدولة المسلمة وطنياً وثقافياً، واستقرار مجتمعها المدني رغم تنوعه الديني والقومي، ونجاح العقد الدستوري بين أطياف شعبه لتكون المشاركة والمنافسة السياسية والحوارية ميدان الاختلاف، وتحافظ الدولة على سلامتها من العنف الفعلي والقولي، وتصل لبرامج مقبولة لصحة الإنسان ومعيشته وتعليمه في أفق حضاري للروح والعمران معا، مع حضور الفكرة الإسلامية لا إسقاطها في الحياة والمجتمع الوطني.

إن هذه المقدمة مهمة جدا للمدخل إلى نهضة ماليزيا، وما سنتناوله عنها في هذا المقال وغيره مستقبلا، فمستوى ما تحقق من النهضة الماليزية يُلامس بالفعل هذا السقف بشهادات عدة، ليست زيارتي إحداها وإنما سُبقت بأقوالٍ وتصنيفات واسعة، وكانت محسوسة للمواطن الماليزي والزائر، وهي اليوم تخوض تجربة انتقالية حساسة من خلال تنوع أو انقسام الكتلة الوطنية المالاوية، والتي هي جسم الجغرافيا الفكري والروحي القديم لهذا الشعب، قبل شركائه ومواطنيه من الصينيين والهنود والقوميات الأخرى.

"مستوى النهضة -الذي نعنيه في تجربة حاضر العالم الإسلامي اليوم- هو ذلك الحد من التشريع والتنفيذ لصالح صناعة الدولة المسلمة وطنياً وثقافياً، واستقرار مجتمعها المدني رغم تنوعه الديني والقومي، ونجاح العقد الدستوري بين أطياف شعبه لتكون المشاركة والمنافسة السياسية والحوارية ميدان الاختلاف"
وقد كان هذا التقدير للمستقبل السياسي المهم أحد مدارات الاتفاق في حلقتي النقاش التي عقدتُها مع عدد من الأكاديميين والباحثين الماليزيين، في الجامعة الوطنية الماليزية وجامعة مالايا الوطنية، فهناك مستقبل سياسي قادم وصراع حرج، سيصنعه التنافس بين المشاريع السياسية لشخصيات وحركات كبرى، منها الحزب الحاكم (أمنو) الذي يمثل إرثاً وطنيا للمالاويين، ليس محصورا في شخصية د. نجيب عبد الرزاق.

والذي يواجه اتهام معارضيه في قضية الفضيحة المالية، ومنها المفاجأة الكبرى بانشقاق د. مهاتير محمد الشخصية التاريخية للحزب ولمشروع ماليزيا، حين أسس حزبه الجديد وقرر مواجهة (أمنو)، ثم المفاجأة الأخرى التي أعلن فيها مهاتير نفسه انضمامه للمعارضة التي أبرز قياداتها د. أنور إبراهيم السجين بآثار حملة مهاتير عليه، وحزب أنور إبراهيم "عدالة الشعب" هو أحد تكتلات التغيير الفكري والسياسي في العمل الوطني الماليزي.

وهنا نحتاج للتوقف عند كل الشهادات التي استمعت إليها، حيث تُجمع على أن التهمة الأخلاقية التي حُكم بسببها على أنور إبراهيم فرية تماما يضحك الماليزيون منها، فلماذا لجأت شخصية عظيمة كالدكتور مهاتير إلى ذلك؟

إنها قصة الصراع السياسي، وكيف يجب أن نتوقف بواقعية في تقدير إنجازات هذه الشخصيات في العالم الإسلامي، وأن الصراع السياسي يؤثر حتى على القيادات المبدعة، ولكن اللوم القاسي يوجه إلى الدكتور مهاتير للجوئه إلى هذه الفرية الأخلاقية المتوحشة، التي ظَلَم بها د. أنور ولا يزال حبيسا في السجن من ارتداداتها، ولا يرغب الحزب الحاكم تصحيحها بإطلاقه حتى لا يشكل تهديدا انتخابيا قادما.

ومعادلة مستقبل الكتلة الوطنية المالاوية تلعب اليوم دوراً كبيراً في مستقبل الانتخابات القادمة والاستقرار الوطني الذي يتيح لماليزيا استئناف مسيرتها، فلماذا الملاويون تحديداً؟ لأن زحف قوة الحزب المعارض الصيني المتمكن اقتصاديا، وفوزه -بحسب أحد الرأيين- يمثل خطراً على كل المشروع الوطني والشعب القديم، وهنا نقطة توقف أخلاقي وفلسفي عميقة، ولماذا لا يفوز الصينيون الماليزيون ويُطبِقُونَ على الحكم بمساندة مواطنيهم الهنود أو كتلة منهم؟

إن الجواب على هذا السؤال يستدعي العودة إلى تاريخ ماليزيا الوطني، فماليزيا أرخبيل من سلاطين المسلمين وشعوبهم، قهرهم الاحتلال البرتغالي ثم الإنجليزي بعد أن خاضوا معارك وتضحيات كبرى، فهي أرضهم قديما وحتى عام 1957، قبل ترتيب الاستقلال بكفاح سياسي دستوري قاده تنكو عبد الرحمن وضمِنَ للشعب استقلاله، وقبل الشرط البريطاني بتأمين المواطنة الدستورية للمستوطنين عبر إنجلترا منالصين والهند (توجد هجرات صينية قديمة لكن كُبراها كانت برعاية إنجليزية).

"حديثنا هنا ليس في تقييم الموقف بين المعارضة والحزب الحاكم، لكنه في فرص محافظة ماليزيا على استقرار اجتماعي وطني يُجسد أمنها السياسي والإنساني ومواصلتها الحضارية، فقوة تاريخ انطلاق النهضة الماليزية كان عبر مهاتير محمد وأنور إبراهيم وفريقيهما"
وفعلا كُفلت حقوقهم السياسية والوطنية العامة، وليس من المنطق ولا الحق الإنساني أن يفقد الملاويون هذه الدولة التي هم أصلها وأشركوا معهم فيها مواطنيهم الآخرين، ومن هنا فالاستقرار الاجتماعي الوطني أحد عوامله حق المالاويين في الحفاظ على مكتسبهم الاستقلالي، واستمرار شراكة كل مواطنيهم، ولا يختلف الفريق الثاني مع هذا الحق، إلا أنه يرى أن هذا التخويف الذي التحق عبره الحزب الإسلامي الماليزي مؤخرا بتحالف مع الحزب الحاكم، غير صحيح.

فالقوات المسلحة تخضع للسلطان وليس لرئيس الحكومة، والجيش في أيدي الكتلة الصلبة للشعب لضمان عدم تحويل ماليزيا إلى مستعمرة صينية، وتجربة المسلمين في تركستان الشرقية التي سُحق فيها الإنسان بالزحف الصيني مروعة، لكنها ليست تهديدا فعليا لماليزيا.

تمثل المواطنة الصينية فعلا إنتاجيا مهما لماليزيا، كما أن الكتلة الثانية -بقيادة تحالف فيه مهاتير محمد وأنور إبراهيم- هي في ذاتها تقع ضمن القوة الصلبة للمالاويين، وهو ما قد يعرف قبيل الانتخابات، أي أن تنسحب هذه الكتلة لصالح حزبي مهاتير وأنور، وكلا الرجلين له معرفة وتاريخ في إدارة اللعبة السياسية.

وحديثنا هنا ليس في تقييم الموقف بين المعارضة والحزب الحاكم، لكنه في فرص محافظة ماليزيا على استقرار اجتماعي وطني يُجسد أمنها السياسي والإنساني ومواصلتها الحضارية، فقوة تاريخ انطلاق النهضة الماليزية كان عبر هاتين الشخصيتين وفريقيهما، وهو ما حقق نجاحا نوعيا حين حوّل أنور إبراهيم فكرته الإسلامية التنويرية لصالح نهضة الدولة المسلمة، وليس الجماعة الإسلامية الحزبية.

فنحج في دعم مشروع مهاتير، ونجحا معا في الحفاظ على الهوية الإسلامية ومواءمة الحداثة معها، وقد كانت المؤسسة الجامعة هي حزب "أمنو" كوريث للحركة الوطنية، فهل سيستمر التحالف الجديد؟ لم يعد من الممكن احتواء الحزب الحاكم للشخصيتين اليوم وإجراء حركة إصلاحية عبرهما، وإنما الممكن توزع الكتلة الصلبة بينهما، واحتواء التمدد الصيني بتجديد مشروع النهضة الوطني، هذا ما سيقرره المستقبل الحرج للتاريخ الماليزي.
المصدر : الجزيرة
https://www.youtube.com/watch?v=oOjbLfY-_EQ